الناصرية ليست «شجرة خبيثة» بل مصنع للرجال
مدينة الناصرية التي غنت لها صديقة الملاية منذ عقود، والتي تردد اسمها في الايام الاولى من تحرير العراق تتميز بخصائص معينة في شتى حقول الحياة.. سياسية، ادبية، فنية، الى جانب موقعها التاريخي باعتبارها حاضنة لاولى الحضارات، حيث ولد سيدنا ابراهيم عليه السلام في منطقة (أور).
كانت الناصرية دائما منطلقا لكل التحركات الثورية في العراق وهذا الذي دفع صدام حسين لان يطلق عليها اسم:
(الشجرة الخبيثة)، حينما انطلقت منها انتفاضة 1991.
شخصيات هذه المدينة البارزة والفاعلة في تاريخ العراق الحديث كثيرة.. فعلى الصعيد السياسي، ظهر في الناصرية يوسف سلمان (الرفيق فهد) مؤسس الحزب الشيوعي العراقي، وظهر فيها ايضا صالح جبر الذي ترأس الوزارة في العراق، واسس حزب الامة.. كما ظهر فيها فؤاد الركابي الذي يعتبر من اوائل المؤسسين القياديين لحزب البعث في العراق.
ومن ابناء الناصرية ناجي طالب الذي يعتبر المنظر الاساسي لحركة الضباط التي قامت بانقلاب 1958 ومن الفنانين والادباء من ابناء الناصرية، وعلى سبيل المثال لا الحصر، الشاعر والناقد صلاح نيازي والرسام حسن آل سعيد والنحات هادي السعيد والملحن طالب القراغولي.. ناهيك عن المطربين داخل حسن وحضيري ابو عزيز وناصر حكيم وحسين نعمة.. وغيرهم.. وغيرهم.
أديب من ابناء الناصرية ـ لا يريد الاعلان عن نفسه مؤقتا ـ اطلعني على بعض خواطره التي كتبها على شكل مذكرات، يصور فيها حقبة الحكم الصدامي، وكيف تعامل مع مدينة الناصرية.
استأذنته بكتابة بعض المقتطفات التي جاءت في تلك الخواطر، فاذن لي بنشرها دون ذكر الاسماء، باستثناء رجال النظام وجلاوزته.
الناصرية.. مدينة آمنة مطمئنة، يأتيها رزقها رغدا.. يعيش اهلها على نهر الفرات، قانعين بما تجود عليهم به الزراعة وما تخرجه ارضهم الخصبة من شتى الثمار، ناهيك عن نخيلها الباسق.. مدينتي.. تلك: انقلبت حياتها بؤسا!! وامنها هلعا!! وانتشر الرعب الاسود في سمائها وتعكر لون ماء نهرها، فهو الى الدم اقرب منه الى الماء!!
هب على مدينتي الجميلة اعصار مدمر في شكل غول بشري!! انه حسن المجيد!! اوفده صدام ليحمي العراق من الخونة والاعداء كما يزعم!!
المجيد هذا، ابن عم الجلاد الاكبر، نشأ وتربى في احقر الاحياء وورث القسوة والنذالة بالتدريب المكثف، حتى وصل الى ما وصل اليه، لانه تسلح بالمؤهلات التي تؤهله لمثل هذا المنصب: اولها ان تكون له سوابق اجرامية.. من سرقة وقتل واغتصاب وقد تمرس المجيد في كل هذه الجرائم وغيرها ومنها.. اي المؤهلات ـ ان يكون جاهلا..!! وبالفعل فقد كان الكيماوي مجردا من كل المشاعر الانسانية!!
وقد شاهده القاصي والداني، وهو يفرغ رصاصاته برؤوس العراقيين ويركلهم بحذائه العسكري على وجوههم..!! هذا واشباهه، جاءوا الى مدينتي الجميلة الناصرية لتأديب اهلها، بتهمة عدم الولاء للقائد والحزب والثورة جاءوا الى جنوب العراق من تكريت حاملين الحقد على مدينة الابداع ومصنع الرجال.. نعم الناصرية قدمت للعراق رجالا شرفاء..
اعلن المجيد منذ وصوله للناصرية الجميلة انه الحاكم العسكري والمدني وهو السلطة القضائية والتنفيذية معا.. انه صاحب اليد المطلقة وواهب الحياة والموت معا لابناء مدينة بزوغ الحضارة الانسانية!!
كيف اصف لكم حسن المجيد الكيماوي..
كائن كريه.. على اعتاب الخمسينات من عمره، شواربه الكثة، توحي بالفظافة!! انفه الطويل، يوشك ان يتدلى قافزا فوق فمه الواسع!! له عينان تطل منهما كل شياطين القسوة، عندما يتحدث، فإنه متقطع الانفاس اللاهثة، كأنها انفاس مريض بالدرن!!
عندما دعا ابناء الناصرية الى اجتماع في المدرسة التي اعمل في حقل التدريس فيها، شهدته وهو يتصدر المجلس مع عصابة، فما ابشع تلك السحنات وما امقتها.. فقد اختاروا من مدينة الناصرية الجميلة، نماذج بشرية لكي يكونوا لهم عيونا على ابنائها!! نماذج من حثالة الحثالات، اذ ان شرفاء المدينة يرفضون ان تدنس اياديهم بأيدي القتلة ومصاصي الدماء!! فوقع اختيارهم على خريجي السجون، من المجرمين واللصوص لتأديب اهل الناصرية لانهم تمردوا على القائد والحزب والثورة كما يزعمون!!
قال المجيد في ذلك الاجتماع:
ان الناصرية من المدن المشاغبة في العراق، ومن السهل علينا مسحها من خارطة هذا الوطن، كما مسحنا من قبل مدينة (سميكة) او (نهر الدجيل)!! واضاف: وان مهمتي في مواجهة هذه المدينة المشاغبة هي الاقتصاص من كل من ساهم وساعد على التمرد الاجرامي وهو قصاص سيكون دون رحمة او شفقة!!
لعلكم تعرفون ان السيد الرئيس صدام حسين حفظه الله ورعاه قد اصدر قانونا باسم قانون الاشتباه، وهذا هو القانون الذي سنطبقه على مدينة الناصرية..!!
واقسم بحياة سيدي الرئيس، وشرفي الحزبي، اذا لم اجد التعاون منكم!!، سأمزق ابناء الناصرية اربا.. اربا!! وما الاعدام الا حكم خفيف عندما يتم التعامل مع مدينة مثل الناصرية ولا تعنيني مراتب الناس او مكاناتهم، سواء كانوا من رجال الدين او من شيوخ العشائر، فكل هؤلاء سأدعسهم تحت حذائي!!
وانتشر خطاب حسن المجيد في ارجاء مدينة الناصرية الجميلة، وبدأت حملات مداهمات البيوت والقاء القبض على الناس دون رحمة او شفقة بمسن او بشاب او طفل!!
وصار المجيد وزبانيته يتفنون في كيفية تعذيب ابناء الناصرية باساليب جهنمية لم تكن لتخطر على رؤوس الشياطين انفسهم!! منها مثلا: كان المجيد يجلس على شرفة مطلة على نهر الفرات ليشاهد اناسا من ابناء الناصرية ـ من مختلف الاعمار ـ وقد تكدسوا في مركب وتحيطهم مراكب اخرى فيها عدد من عصابة الحزب وعندما تصل المراكب الى منتصف النهر، حيث العمق، يقوم اعضاء الحزب بقلب المركب المشحون بالناس.. ليشاهدهم حسن المجيد من على شرفته، وهم يصارعون الماء الى ان تخمد انفاس البعض منهم غرقا، وكان هو يقهقه متسليا!! فسيطر الرعب على ابناء المدينة الجميلة.. عندما كان زبانية الحزب، يتبارون في اختراع واستنباط وسائل جديدة لتعذيب الناس من ابناء الناصرية.
ان عدد الذين ماتوا على يد حسن المجيد، لا حصر لهم.. والمقابر المنتشرة حول الناصرية والتي اكتشفت مؤخرا خير دليل على الاجرام الذي تعرضت له مدينتي الحلوة..!!
لعل المقادير ارادت ان تلعب لعبتها عندما وزع الطاغية رجال عصابته لتولي مهام الدفاع عن حكمه في اربع مناطق وكان نصيب حسن المجيد منها جنوب العراق.. ليموت في الناصرية وسط لعنات ابنائها، بل لعنات شعب العراق كله، ولعنات كل الشرفاء!! في العالم!!